مراجعات الكتب

إسلامي سوري في اسطنبول/ بكر صدقي

في جولة لي في أحد معارض الكتب التركية، رأيتُ كتاباً يحمل عنوان «الحموي» (Hamalı)، اتضح لي أنه رواية بقلم كاتب تركي لم أسمع به سابقاً هو أحمد باكالن. كان بوسعي أن أتركه وأمضي بحثاً عن عناوين أخرى قد تثير اهتمامي، لولا فضولي لمعرفة كيف قد يكتب تركيٌ عن مأساة مدينة حماة في العام 1982، أو عن سوريا بشكل أعم. فهذا ما يوحي به العنوان المثير، بحد ذاته، لكثير من الأفكار والتداعيات بخصوص المأساة السورية المستمرة منذ بداية العهد الأسدي إلى اليوم.

على غلاف الكتاب صورة مركبة تبرز فيها صورة رجل شاب بلحية سوداء مشذبة، يرتدي ثياباً عربية تقليدية: جلباب أبيض فضفاض، فوقه صديرية سوداء بلا أكمام ولا تغطي الصدر، ويعتمر كوفية عربية تقليدية بيضاء، يمضي ماشياً إلى الأمام على ما توحي حركة اليدين والقدمين، وطرف الكوفية يتطاير في الريح. تحيط بالرجل صور لمعالم أثرية من حماة: الناعورة والساعة والقناطر وقبة جامع. وثمة حريق كبير مندلع خلف الرجل الذي يبتعد عنه متجهاً إلى الأمام، لا يبدو عليه خوف الهارب بل إقدام الجسور وعنفوانه.

أملك من الأسباب ما يكفي للقول إنها صورة السوري في الوعي الإسلامي التركي التي تتصف بتبسيط شديد يختزل «السوري» إلى «مسلم» ثم «إسلامي» من جهة، ومطابق لصورة متخيلة عن «العربي» في الوعي العام التركي مأخوذة من تنميطها في السينما الهوليوودية، من ناحية المظهر الخارجي من جهة ثانية.

«صفا» شاب حموي يدرس في جامعة حلب، ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تقاتل النظام في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يضطر إلى ترك جامعته والفرار إلى تركيا حين يدرك أن أجهزة المخابرات ستقوم باعتقاله. يجدر بالذكر أن نظام الأسد يظهر في الرواية بعبارات «النظام النصيري» أو «الجيش النصيري» أو «الحكومة النصيرية».

لا يبخل علينا الكاتب في وصف شوق صفا إلى أهله وبلاده، وبقائه على تواصل معهما بقدر المستطاع، لكننا سنلاحظ أن حياة صفا – وزملائه – في إسطنبول تختلف، إلى حد كبير، عن حياتهم في سوريا، وسيتمحور «جهادهم» هناك حول هدف جديد هو إصلاح المجتمع التركي بما يفوق اهتمامهم بسوريا ما بعد مجزرة حماة 1982 التي يبدو أنها باتت منسية إلى حد كبير، ربما بسبب غياب تدفق المعلومات أو بسبب عدم وجودها أصلاً بعدما سيطر الظلام والرعب على سوريا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

المدخل الأنسب للنفاذ إلى المجتمع التركي هو النساء كما يمكن أن يتوقع المرء. وصفا «حبّيب» لا تنقصه الجاذبية التي تستقطب الفتيات التركيات إليه. فعلى مدى مئتي صفحة هي حجم الرواية، وبضع سنوات من عمر الطالب الجامعي صفا، تقع في حبه ثلاث فتيات تركيات، إضافة إلى «بشرى» التي كان يحبها في سوريا وفرقت بينهما ظروف الحرب الداخلية واضطرار صفا للخروج. الغريب في علاقات صفا النسائية في تركيا هو أن لكل من الفتيات اللواتي أحببنه اسما وملامح شخصية وأفكارا وكلاما، باستثناء التركية الثالثة التي ستصبح زوجته، فهي بلا اسم ولا ملامح ولا حضور في الرواية. نعرف فقط أنها مؤمنة مثله، تؤدي واجباتها الدينية، والأهم من كل ذلك أنها محجبة.

«ناجية» هي ابنة الجيران في البناء الذي يستأجر فيها صفا وزميلان من زملائه شقة للعيش المشترك، سرعان ما تقع في حبه وتدعوه إلى بيت أهلها لتناول الغداء، وتصبح مشروع خطيبة لصفا، لكنها غير محجبة، وهو يشترط عليها الحجاب لاتمام الزواج. وهكذا يفشل المشروع وينتقل الشبان الثلاثة إلى حي بعيد. أما «حورية» زميلة صفا في الجامعة، فتبدو حظوظها أكبر من ناجية، لأنها متدينة ومحجبة أصلاً وابنة عائلة محافظة. تمضي الأمور بسلاسة باتجاه النهاية السعيدة إلى حين وقوع حدث يدمر هذه العلاقة. فقد قررت السلطات حظر الحجاب في الجامعات، فبقيت آلاف الطالبات خارج الحرم الجامعي ممنوعات من الدخول إلى قاعات الدراسة. تواظب الطالبات المحجبات، لأسابيع، على الحضور والتجمع أمام بوابات الجامعة احتجاجاً على القرار الجائر، على أمل أن تخضع السلطات أمام إصرارهن ومطالبات أهاليهن فتتراجع عن القرار. ولكن عبثاً! وهكذا بدأت بعض الطالبات تتخلين عن الحجاب من أجل متابعة تعليمهن، في حين تخلت أخريات عن التعليم متمسكات بواجبهن الديني. ولم يخل الميدان من فتاوى رجال دين بررت كلاً من هذين الخيارين.

حورية وأهلها اختاروا نزعها لحجابها ومواصلتها لتعليمها. وهو ما كان يعني أيضاً تخليها عن صفا الذي أحبته ولم يقبل طبعاً بخيارها بشأن الحجاب.

تبدو الرواية، في قسمها الأكبر، تركية الموضوع والاهتمامات، بخلاف ما أوحى عنوانها وغلافها. يبرز السوري في الرواية، بالأحرى، كضمير إسلامي يذكّر الأتراك بدينهم وأصوله وموجباته، بل وسياساته إذا جاز لنا التعبير. فعلى رغم الطابع الاجتماعي الطاغي على تفاصيل الرواية، فإن صدورها عن منظور الإسلام السياسي شديد الوضوح، هذا التيار الذي يخوض معركته المصيرية ضد العلمانية والتغريب التركيين، وقد تجلى ذلك بأوضح صورة في معركة الحجاب.

تصور الرواية المجتمع التركي بوصفه مجتمعاً جاهلياً يحتاج إلى تقويم، وهذا هو واجب «المسلمين» الذين يخوضون معركتهم ضد الجميع: المجتمع المحلي «المنحلّ» والغرب المتجبر و»كل أعداء الإسلام» الذين نفهم من سطور الرواية أنهم كل البشرية باستثناء قلة ناجية. لنقرأ:

«إن رغبة قابيل في إدارة شؤونه بنفسه قد أدت إلى سفك أول دم، وكان هذا دم أخيه… نعم، إن القوانين الوضعية لا تفعل شيئاً غير سفك الدماء، في أساسها الظن والشك، وهو ما يجعل الناس يفقدون ثقتهم بعضهم ببعض. حتى الحب قائم على الرياء، لأن الأعمال تسعى إلى استرضاء الشعب وليس رضى الخالق». تمّحَ الحدود، في الكلام السابق، بين لسان الراوي ولسان صفا، فهما واحد في رواية مرتبكة فنياً، متماسكة أيديولوجياً إلى درجة تظنها مقالة فكرية لتيار الإسلام السياسي بمعناه العريض أكثر من كونها عملاً أدبياً لا يمكن أن يقوم إلا على تعدد الأصوات.

لا أزعم أن «الحموي» تمثل الرواية التركية الإسلامية، لكنها نموذج يعطي فكرة ما عن عشرات الأعمال الأدبية التي كتبت بهدف «تربية جيل إسلامي واعٍ على قيم دينه». يذكر أن للكاتب رواية أخرى بعنوان «حماة الشهيدة»، وكتاباً «مصاحف وقنابل» وترجمة لأحد كتب يوسف القرضاوي.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى